الثلاثاء، 6 يناير 2009

صمود ...

اعتادوا أن يقولوا علي طفل العائلة المدلل...
و لطالما حذروك من تدليلك لي خشية أن تفسدني ... و لكنك لم تكن تلتفت لكلامهم ..و كنت تعطيني الكثير من اهتمامك .. فقد كنت الصبي الوحيد الذي جاء بعد عدة بنات ...
أخبروني أنك انتظرتني طويلا .. كنت تتمنى أن تنجب الولد .. ليكون لك سندا .. و لتطمئن على أمي و أخواتي و تحس أنك خلفت لهن رجلا ..
لربما ظنوا أن تدليلك و حبك الزائد لي لن يجعل مني ذلك الرجل الذي تتمنى .. و لكنني أستطيع أن أزعم الآن أن هذا الحب لم يذهب هباءا .. فقد أصبحت تلك المشاعر و المواقف التي عشتها معك هي الذكرى الوحيدة المتبقية لي.. ذلك الإهتمام و الحنان الذي كنت أراه في عينيك .. تشبثي بيدك أثناء سيرنا سويا في الطرقات .. اصطحابك لي للمسجد لنصلي سويا .. و حتى لعبنا سويا ..
لم أعد أملك من متاع الدنيا إلا تلك الذكريات بداخلي .. بعد أن دمر منزلنا بما يحمل من ذكريات سعيدة و حزينة .. ودمرت منازل جيراننا .. و حتى المسجد الذي اعتدنا أن نصلي فيه دمر هو الآخر ..فلم يبقى من الأماكن ما يمكن أن أذهب إليه لأستعيد ذكراك ..
أخبروني أن الرجال لا يبكون ..
في ذلك اليوم و هم يحملون بقاياك التي انتشلوها من تحت حطام منزلنا .. حاولوا أن يمنعوني من رؤيتك .. أخبروني أنك في الجنة الآن .. و أنك أحسن حالا بكثير مما نحن فيه ..قالوا لي نفس الكلام الذي قلته لي حينما استشهد صديقي .. أخبرتني أنني لا يحب أن أحزن عليه .. فقد اختاره الله ليكون من الشهداء و يسبقنا إلى الجنة .. أخبرتني أنك تتمنى أن تكون مثله .. و تتمنى أن أكون أنا أيضا مثله ..و في ذلك اليوم اختارك الله لتكون مثله ..
حاولت ألا أبكيك .. و أن أظل متماسكا لأثبت أمي و أخواتي .. و لكنني حقا لم أستطع ..و لكن حسبي أنني استطعت اخفاء دموعي وراء جدار من القوة و الصمود ..
الصمود .. تلك الكلمة .. لطالما استخدمتها .. و حكيت لي عنها حكايات طويلة حينما كنت ابدي أحيانا تأففي من تقشفنا و حياتنا الصعبة .. لم أستطع وقتها أن أفهمها جيدا .. برغم أنك أخبرتني عنها كثيرا .. و لكنني فهمت فقط أنها تمثل شيئ أغلى من الدفء في اليالي الباردة الطويلة التي كانت تقطع فيها عنا الكهرباء .. شيء أغلى من وجبة دسمة في تلك الأيام التي كنا نكتفي فيها بما يقيم أودنا و فقط ..
هي ذلك الشيء الذي يبقيك مع كل ذلك تمشي مرفوع الرأس و كأنك تملك العالم كله ..
و الذي يجعلك لا تخشى أحدا ولا تطأطئ رأسك إلا لله ..بالأمس فقط بدأت أعي معنى تلك الكلمة .. حينما كنت أصلي مع الجماعة على أنقاض ذلك المسجد الذي اعتدنا الصلاة فيه سويا .. كلنا أتينا بأحزاننا و همومنا .. و ما إن وقفنا جنبا إلى جنب .. القدم في القدم و الكتف في الكتف ..حتى تنحت تلك الآلام جانبا .. و حل محلها تلك الرغبة القوية في .. الصمود ..
أخبروني أنني أصبحت رجل البيت ..
و اليوم و أثناء سماعنا لأصوات القصف المدوية ..توليت عنك تلك المهمة .. مهمة تثبيت و طمأنة أمي و أخواتي .. بالأمس فقط كنت أخاف و ارتجف معهم و انتظر منك أن تثبتني و تحتوي خوفي .. أما اليوم فأنا أقوم بمهمتك ..لازلت أحمل بداخلي بعض الخوف .. و لكن ما ولد بداخلي من احساس بالمسؤولية نحى ذلك الخوف جانبا ..و أيضا ما أحمله من شوق للقائك في الجنة جعل مني إنسانا آخر أكثر شجاعة و قوة ..أتدري ما قالته لي أمي و أنا أحاول طمأنتها .. قالت لي من بين دموعها أنني قد أصبحت فعلا رجل البيت ..فرحت كثيرا بما قالت ..
و لكن للأسف .. لم يعد هناك بيت

هناك 6 تعليقات:

غير معرف يقول...

msALLAH ya Yasmina
بجد مش عارفة أهنئك على هذه الرائعة _والتى جعلت قشعريرة باردة تسرى بجسدى_
أم أكتفى بأن أحترم ما فيها من شجون وأشارك بطلها و أهله والعرب جميغا رثأهم
أئولك مبروك وتحفة بجد والبقاء لله

غير معرف يقول...

مع مثل هذا النوع من الكتابات.. لا يمكن للقارئ أن يجزم بأن براعة الكاتب هى ما أثارت مشاعره وأجرت مدامعه.. ففى خلفية تلك الكلمات البسيطة ما يفوق الحصر من صور وحقائق وأحداث جلل سرعان ما تتدافع للذهن فتستثير ما أراد الكاتب ومالم يرد مما يحوى عقل القارئ من هموم تسيطر عليه فى نومه مع يقظته..
لما لم أتغلب على تلك الدموع.. او بالأحرى لم أعد أبالى فى محاولة منعها.. عدت بعد أن تمالكت نفسى لأقول أن هذه التدوينة تؤكد خاصية مميزة فى هذه المدونة.. حرص الكاتب دائما على النظر للحدث.. للموقف.. للفكرة.. من تلك الزاوية الفريدة.. كيف ينبت الأمل فى حقل اليأس.. كيف ترى النعمة فى ثوب الابتلاء.. "اختاره الله ليكون من الشهداء و يسبقنا إلى الجنة".. "قالت لي من بين دموعها أنني قد أصبحت فعلا رجل البيت ..فرحت كثيرا بما قالت"..
الكاتب بارع فى حث القارئ على استنباط المعنى/الرسائل من العبارات والصور البليغة الموجزة..
"ما إن وقفنا جنبا إلى جنب .. القدم في القدم و الكتف في الكتف ..حتى تنحت تلك الآلام جانبا .. و حل محلها تلك الرغبة القوية في .. الصمود".. ربما تعجز عشرات الرسائل والخطب فى إيصال هذا النداء لأشقاء المقاومة والرباط الفرقاء.. كأنى بالكاتب يقول: إن لم يكن فى تلك المحنة ولله.. فمتى ولمن تجتمع الكلمة ويتحد الصف؟!.. "اليالي الباردة الطويلة التي كانت تقطع فيها عنا الكهرباء".. "تلك الأيام التي كنا نكتفي فيها بما يقيم أودنا و فقط".. هاأرباب المرؤة أخوة الإيمان!!.. أين أنتم من حال إخوانكم؟؟.. ماذا قدمتم لهم؟؟.. لأنفسكم؟؟.. لربكم فيهم؟؟.. ربما هذا هو النداء الذى يحويه بين طياته الأسلوب الخبرى بتجسيده لواقع شديد الوطأة فى كلماته المعدودة..
"اصطحابك لي للمسجد لنصلي سويا".. "ما أحمله من شوق للقائك في الجنة".. علامة أخرى تميز أسلوب هذه المدونة.. تظهر فى تلك الهمسات الإيمانية الدعوية الرقيقة غير المباشرة.. التى تنزل عند القارئ بمنزل يتخطى به محدودية الإبداع القصصى ومتعة المطالعة.. إلى واقعية الأهداف الراقية والغايات النبيلة الموظفة فى النسق القصصى.. "حينما كنت أصلي مع الجماعة على أنقاض ذلك المسجد الذي اعتدنا الصلاة فيه سويا".. صورة بليغة شديدة العمق.. ما أغناها.. الغلام الصغير يصلى.. فى قلب المحنة.. تحت "الرصاص المصبوب".. مع الجماعة.. فى المسجد الذى عَرَّفَه أبوه.. فوق أنقاضه.. كيف فى هذه السن؟؟.. كيف فى تلك الظروف؟؟.. كيف أن الأب يعتاد على اصطحاب صغيره للمسجد؟؟.. أحييك..
المطابقات الذكية تؤدى دورها فى الإبقاء على يقظة وحضور القارئ.. خاصة إن طال النص.. "قالت لي من بين دموعها أنني قد أصبحت فعلا رجل البيت ..فرحت كثيرا بما قالت .. و لكن للأسف .. لم يعد هناك بيت"..
"ما ولد بداخلي من احساس بالمسؤولية ".. أرى الأمة كلها ممثلة فى شخص الطفل الصغير مطالبة بتحمل مسئولياتها تجاه بعض منها يعتدى عليه.. تجاه شهدائها.. تجاه عوائلهم.. تماما كما عبر الكاتب عن احساس الصغير بمسئوليته عند استشهاد أبيه..
رغم عدم وضوح البداية.. وللوهلة الأولى غموض الافتتاحية.. إلا أن الكاتب ربما أراد أن يقول أن الصغير برغم كونه كأى طفل فى سنه.. وعى منقوص واهتمامات عبثية.. بل ربما شئ من الاعوجاج.. إلا أن المحن تصنع الرجال.. فيقول للمحبطين والقانطين والمشككين أن الانتصارات تولد من رحم الهزائم.. وأنه لا يُذهب خبث الحديد إلا النار..
عذرا للإطالة.. إلا أن تلك الكلمة القوية – الصمود – أثارت الكثير ونكأت العميق.. فلا أعلم.. أمعناها بقوته أضاف إلى بنائها.. أم حروفها هى ما أعطت للَّفظة هذه القوة.. وربما هذه وتلك..
اللهم أصلح أمة الصادق الأمين.. انصر إخواننا المؤمنين.. رد عنهم كيد الظالمين.. اجمع كلمتهم ووحد صفهم يا رب العالمين.. واستعملنا فى الخير بالإخلاص واليقين.. آمين

sahar alnawawy يقول...

ايه يا ياسمينا الإحساس ده !!!
ما شاء الله عليكي
لا تحرمينا من إبداعاتك أبدا

بحبك

دعـاء عـلى يقول...

ياه يا ياسمين ... متعرفيش اختصرت كميه وجع اد ايه فى القصه دى ...
اختزلت الرساله اللى كلنا عايزين نوجهها و مش عارفين ... يمكن لأننا مكناش لاقيين الكلمات و كل ما كنا نحاول نجمعها كنا نحسها أسخف من المطلوب ...

مشكله المحللين السياسيين و القاده و غيرهم انهم بيتعاملوا مع الحرب فى صوره ارقام ... عدد من الضحايا و عدد اخر من الجرحى و عدد ثالث يحتاجون الى المساعدات ...

مفيش واحد فيهم كلف نفسه و بص من قرب لطفل زى اللى انتى اتكلمتى عنه ...
زى ما بقول دايما ... التفاصيل الصغيره للاحداث هى التى تهم و هى التى يجب أن توجه قراراتنا ...
يا رب نظرتهم تتغير ...

عايزه أقولك ان الأسلوب أكتر من رائع بجد ... و هذه المره تختلف ...

ياسمين نعمان يقول...

نهى .. نورتيني و الله يا ست نهى .. جزاك الله خيرا على تشجعيعك .. و اسفة على "القشعريرة الباردة" :-))
غير معرف .. كالعادة تعليق محترم و قيم أعطى لما كتبت أكثر من حجمه .. جزاك الله خيرا على التشجيع .. اللهم آمين ..
و ان كنت لا أجد فيما تكتب ما يدفعك لإخفاء اسمك

جزاك الله خيرا يا سحورة ..
حاضر ..
و أنا كمان :-))

دعاء
معاكي حق .. جزاك الله خيرا بجد على تعليقك الجميل .. شدي حيلك في المذاكرة .. ربنا معاكي

dina talat يقول...

بصرحه بعد التعليقات دى انا مشعرفه اكتب ايه
ما شاء الله لا قوة لا بالله ربا يزيدك