السبت، 2 أبريل 2011

إلى الجنة ..



"اللهم ارزقنا الشهادة في سبيلك"

هكذا دعا الامام في دعاء القنوت في ذلك اليوم ..

كثيرون قالوا آمين .. ولكن حين قالتها هي، كانت تختلف .. كانت تخرج من قلبها مباشرة..

لم يشبها تعلق بالدنيا، أو قلق على أمها العجوز التي ليس لها غيرها في هذه الدنيا .. فهي تعلم أن ربها أرحم بأمها منها .. وأنه حين يرزقها الشهادة .. سيدبر أمر أمها ويرزقها من حيث لا تحتسب ..

وهي تعلم أن هذه الدنيا قصيرة .. وأنها إذا استشهدت، برغم أن أمها ستحزن عليها حزنا شديدا .. ولكن يوم اللقاء قريب .. وستفرح بها أمها كثيرا حين تراها في مقام الصديقين والشهداء والصالحين، وحين تشفع فيها ابنتها وتأخذ بيدها إلى جنة الخلد .. حيث لا تعب ولا ظلم ولا فراق ..

لم تكن تتخيل كيف لفتاة عادية مثلها أن ترزق الشهادة .. فهي ليست مقاومة أو مجاهدة .. حياتها عادية جدا .. تذهب صباحا إلى عملها البسيط لتدبر قوتها هي وأمها ثم تعود لتساعد أمها في المنزل إلى أن تنام من الإرهاق ..

******

وحين قال هو "آمين" أيضا كانت تختلف .. كانت صادقة جدا .. وتحمل كل ما بداخله من شوق ..

لم يكن يتخيل أيضا كيف سينالها .. فهو ليس مجاهدا ولم يستعمل في حياته سلاحا .. كل ما يملكه هو الكاميرا الخاصة به التي يلتقط بها صورا متميزة .. وفنه الذي يعلمه لتلاميذه في الجامعة ..

لا يدري كيف لفنان مسالم مثله أن يكون شهيدا .. ولكنه يثق كل الثقة في وعد الرسول صلى الله عليه وسلم لمن يطلب الشهادة بصدق أن ينالها .. وهو يحس بأن قلبه صادق في طلبها ..

لربما من له مثله زوجة وطفلين صغيرين، يخاف على نفسه من أي ضرر ليرعاهم .. أما هو، فعنده يقين حقيقي أنه حين ينال الشهادة لن يضيع الله أحبته .. وسيخلفه في بيته .. وسيربي له أبناءه أفضل بمرات مما كان سيفعل هو ..

أما يوم اللقاء .. فسيلقى من تركهما طفلين صغيرين لا يعيان شيئا .. شاب وشابة ناضجين ومعهما أمهما فخورة بهما .. وسيأخذ بيدهم إللى جنة الخلد حيث لا تعب ولا ظلم ولا فراق ..

هو فقط لا يريد لهم أن يحزنوا على فراقه .. ولكنه يعلم أنه سيلقاهما سريعا ..

*******

ككثيرين، لم يكونا راضيين عن حال وطنهما .. وهذا ما دفعهما للنزول في جمعة الغضب ..

كانت تصرخ من كل قلبها ضد النظام وهي تذكر أمها المريضة التي لا تملك أن تعالجها .. والغرفة الضيقة التي تعيشان فيها .. والمال القليل الذي تقبضه في آخر الشهر والذي بالكاد يكفي لإطعامهما .. وأحلامها التي وإدت قبل حتى أن تولد ..

وكان يصرخ من كل قلبه مع المتظاهرين .. ويلتقط صورا لهم .. وهو يذكر طفليه اللذان يود لو يعطيهما الدنيا كلها .. ويعلمهما في أحسن المدارس .. ثم يتذكر حياته المتواضعة "المستورة"، ومرتبه المتواضع من الجامعة الذي بالكاد يكفيه هو وأسرته .. ثم يتذكر طلبته في الجامعة وحماسهم المتقد، ورغبتهم في العمل والتغيير .. والعقبات الكثيرة التي توضع في طريقهم ليستمروا في السير "جنب الحيط" .. والظلم الذي يقع على من يحاول تجاوز تلك العقبات ..

هي كانت خائفة من زيهم الأسود المقبض .. ورصاصهم المطاطي .. وقنابلهم المسيلة للدموع .. نعم كانت خائفة ولكنها ليست جبانة، لأن خوفها لا يجعلها تتراجع، بل هي ماضية بقوة مع الجموع ..

تنظر في العيون المليئة بالعزيمة من حولها لتستمد منهم الشجاعة والقوة .. فيعلوا صوتها شيئا فشيئا .. تحس بقرب النصر .. وتتمنى لو تعود سريعا لتحكي لأمها عن ما شاهدته ..

وهو كان يحمل كاميرته ويصور هنا وهناك .. ليسجل كل ما يحدث .. كان يؤلمه أن يرى القبح والظلم متجسدان في مواجهتهم .. ولكنه أراد أن يوثق كل شيء للتاريخ ..

وبواسطة عدسة كاميرته المتطورة .. كان يستطيع أن يرى القناصة، فكان يحذر من حوله منهم .. كان يتمنى أن يعود سريعا لينشر ما رأى ويثبت للتاريخ من هو المخرب الظالم .. ومن يناضل لينقذ الوطن ..

ولكنهما لم يكونا يعلمان أنهما لن يكتب لهما أن يعودا ..

*******

هو .. كان متمركزا في موقعه المتميز .. هناك، فوق سطح أحد المباني التي تطل على الميدان .. يستطيع أن يرى كل شيء يحدث بوضوح ..

يمسك ببندقيته .. في وضع الاستعداد كما جاءته الأوامر .. اليوم أخيرا سيستبدل الدمى الحشبية التي اعتاد أن يصوب عليها نيران بندقيته بأشخاص حقيقيين ..

يحس برهبة الموقف .. فأمامه جموع حاشدة .. لكل فرد منهم حكاية وأهل وأحبة .. معظمهم شباب .. بالتأكيد لهم خطط وآمال للمستقبل .. وبضغطة زناد منه تنتهي قصة وتبدأ أخرى ..

اختيار صعب .. يصوب بندقيته .. يفتح عينا ويغلق أخرى وينظر من خلال عدسة البندقية ..

إمم .. هذا الشاب ذو القميص الأبيض يبدو هدفا جيدا .. يضغط الزناد .. وهذا ذو البنطال الأزرق .. فيضغط .. وتلك الفتاة .. يبدو عليها الحماس وكأنها لا تخشى شيئا .. فيضغط .. هكذا بضغطة واحدة .. تنتهي قصة بأكملها .. التفاصيل والحياة والمشاوير والأحلام والأصدقاء .. تنتهي كلها في لحظة

يتساقطون أمامه واحدا تلو الآخر .. إلى أن يرآه ..

رآه يحمل كاميرته ويصوبها نحوه في شجاعة .. تلتقي الأعين للحظة .. كاميرا في مواجهة بندقية .. وحين ضغط الشاب الزر والتقط الصورة .. قرر أنه سيكون ضحيته التالية .. لم يتردد .. وضغط الزناد .. وظن أنه انتصر

********

"اللهم ارزقنا الشهادة في سبيلك"

هكذا دعا الامام في دعاء القنوت في ذلك اليوم ..

كثيرون قالوا آمين .. ولكن حين قالها هؤلاء كانت تختلف .. كانت تخرج مباشرة من قلوب صادقة .. تتمنى لقاء ربها ..

قالوها بحرقة .. "فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا"

  • متستوحاه من قصص حقيقية للشهداء.